السؤال:
أنا ملتزم -والحمد لله- أريد الزَّواج من فتاةٍ مُلتزمة هي أيضًا -والحمد لله- لكن أمها ترفُض هذا الزَّواج؛ لأنِّي لا أنتمي إلى نفس المدينة، وتقول بأنَّني غريب، ولأنَّها أكبر منِّي بسنة، علمًا بأنَّ والِدَها موافقٌ على زواجِنا.
هل يجوز أن نتزوَّج رغْم مُعارضة والدتِها؟ علمًا أنَّها قالتْ لها: لن أرْضى عنك إذا تزوَّجتِ به.
رجاءً أُريدُ جوابًا في أقْرب وقت، شكرًا وبارك الله فيكم.
الإجابة:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فطاعة الوالدين في المعروف من الواجبات المحتَّمات في ديننا الحنيف، وحُسنه ممَّا استقرَّ في العقول، وتواترت عليه أدلَّة الكتاب والسنَّة، ولكن إن تعنَّت الوالِدان في استِخدام حقِّهما، جعل الله للأبْناء مندوحةً في المخالفة، لاسيَّما إن شقَّ عليْهِم ذلك، ولتُراجع الفتوى: "وجوب بر الوالدين وإيثارهما على من سواهما".
فإذا تقرَّر هذا، فالذي ننصحُ به تلك الفتاة، إن كانتْ راغبةً في الزَّواج من المستشير الكريم، وكان ظاهِره -وفَّقه الله- الالتِزامَ والخلُق الرَّفيع: هو بذْل الوسْع، ومحاولة الجهْد، وتوْظيف كلِّ الإمْكانات المُتاحة في إقْناع والدتِها بذلِك الزَّوج، فللأبْناء تأثيرٌ قويٌّ على آبائِهم، ولها أن تُوجِّه لها بعْض إِخْوانِها، أو أقارِبِها، أو مَن تثِق به من صديقاتِها، أو بعض أهل العِلْم والصَّلاح؛ لينصحَها ويوجِّهها، ويبيِّن لها أنَّ الزَّوج المرضيَّ في الدين والخلُق مما يَجب الظَّفر به، لاسيَّما في هذه الأزْمان المتأخِّرة، التي كثر فيها الخبثُ وعمَّ الفساد؛ ولذلك رغَّب النَّبيُّ -صلَّى الله عليْه وسلَّم- في قبوله دونَما أيِّ اعتبارات أخرى؛ كما روى التِّرمذي وابن ماجه عن أبي هُريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليْه وسلَّم-: «إذا أتاكُم مَن ترْضَون خلُقَه ودينَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكُنْ فتنةٌ في الأرْض وفساد عريض» (صحَّحه الألباني[ ] في "السلسلة الصحيحة")، وفي رواية عند الترمذي من حديثِ أبي حاتم المزني، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: «إذا جاءكم مَن ترْضَون دينَه وخُلُقَه، فأنْكِحوه»، ثلاث مرَّات.
ولتستعن على تليين قلبِها بالله -تعالى- فتتوجَّه إليْه -سبحانه- بالدُّعاء والتضرُّع: أن يُلْهِمها رُشْدها، ويَهْدِيها، ويوفِّقَها للقبول، فالقلوب بِيَد الله - تعالى - يُقلِّبها كيف يشاء.
ولتكثِرْ من العمل الصَّالح ولتبتعد عن المعاصي؛ فالزَّوج الصَّالح رِزقٌ من الله تعالى، والرِّزْق لا يُنال بِمعصية الله، وإنَّما يُنال بطاعته، ومِن أعظم الطَّاعات برُّ الوالدين والإحسان إليْهِما؛ قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23].
ولكنْ إن أصرَّت الأمُّ على رفْضِها للزَّوج المرضيِّ دينيًّا وخلقيًّا -لا قدَّر الله ذلك- ولم ينفَع معها ما أسلفْنا، وأبَتْ إلاَّ العضْل فلا يلزم الابْنةَ طاعَتُها، ويجوز لها الزَّواج دون موافقتِها، ما دام وليُّها -وهو الأب- موافقًا على زواجِها، وإتْمام الزَّواج في تلك الحال ليْس من العقوق؛ لأنَّ رفْضَها -والحال كذلِك- مَحض تعنُّت، وما تذكرُه من حججٍ، من أنَّ المتقدِّم غريبٌ عن مدينتِهم، أو أنَّ الفتاة أكبر منْه بسنةٍ ليس بشيء، بل إنَّ سادتنا الفقهاء قد نصُّوا على أنَّ: الولي من الرجال إنْ عضل المرأة[ ] من التَّزويج بكفْئِها، إذا طلبت منه ذلك، ورغِب كلُّ واحدٍ بصاحبِه أنَّه يفسق بالعضْل، وتنتقل الولاية إلى الولِيِّ الأبعد؛ فقد روى البُخاريُّ عن معقِل بن يسار: قال: "زوَّجتُ أُختًا لي من رجُلٍ فطلَّقها، حتَّى إذا انقضتْ عدَّتُها جاء يَخطبها، فقلتُ له: زوَّجتُك وفرشتُك وأكرمتُك، فطلَّقْتَها، ثم جئتَ تَخطبها، لا - والله - لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريدُ أن ترجِع إليه، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232]، فَقُلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوَّجها إيَّاه".
قال ابن قدامة في "المغني": "إذا عضلها وليُّها الأقْرب، انتقلت الولاية إلى الأبْعد، نصَّ عليْه أحْمد، وعنْه رواية أُخرى: تنتقِل إلى السلطان، وهو اختِيار أبي بكر، وذُكِر ذلك عن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنْه - وشريح، وبه قال الشَّافعي؛ لقوْلِ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «فإنِ اشتجروا، فالسُّلطان وليُّ مَن لا وليَّ له» (سنن الترمذي).
ولأنَّ ذلك حقٌّ عليْه امتنع من أدائه، فقام الحاكم مقامه، كما لو كان عليه دَيْن فامْتنع من قضائِه، ولنا: أنَّه تعذَّر التَّزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعد، كما لو جُنَّ؛ ولأنَّه يفسق بالعضْل، فتنتقِل الولاية عنْه، كما لو شرب الخمر، فإن عضل الأوْلِياء كلُّهم، زوَّج الحاكم". اهـ.
فإن كان هذا في حقِّ الولي الذي لا يصحُّ النِّكاح إلا به، ففي حقِّ الأمِّ أوْلى وأحْرى، ولكن مع مُواصلة البرِّ بِها والإحسان إليْها، ولا يَحمِلها غضب الأمِّ على هَجْرِها أو مُقاطعتها، فإنَّ ذلك من أقْبح الذنوب[ ] ، وأعظم العُقوق، وأكبر الفسوق.
هذا؛ ونوصي تلك الأمَّ بأن تتَّقيَ الله -تعالى- في ابنتِها، وأن تُراعيَ الأصلح لها في دينها ودُّنياها، وهذا هو الألْيق بالأم، التي تضحِّي دائمًا لإسعاد أبْنائِها.
نعم، نحن نُدرك أنَّ الغالب من حال الأمَّهات أنَّهنَّ لا يردْنَ إلاَّ الخير لأبنائهنَّ، وأنَّهنَّ أكثر عاطفةً، وأنَّها لا تتمسَّك برأْيِها عن هوى وتسلُّط، وأنَّه يَمنعها من الموافقة ما تظنُّه مانعًا؛ ولكن لا يعني هذا أنَّهنَّ مصيباتٌ دائمًا، ومن ثَمَّ وضع لنا الشَّرع قواعدَ ظاهرةً واضحةً مثلَ الشَّمس؛ حتَّى لا يكون مردُّ الأمور للاسْتِحْسان، الذي كثيرًا ما يخطئ. ولتراجع فتوى: "حكم طاعة الوالد في العمل في جهة لا يرغبها الابن".